لدولة المسلمة وحقوق العمال
موقع القرضاوي/29-4-2009
· من فتاوى العلامة الشيخ يوسف القرضاوي:
- السؤال: هل يجوز للدولة في الإسلام أن تتدخل بين العمال وأرباب العمل، فتتولى هي تحديد أجور العمال، وما يتعلق بذلك من استحقاقهم للإجازات، أو للمكافآت أو المعاش عند انتهاء الخدمة، أو تحديد ساعات العمل، وغير ذلك مما تعارف عليه عصرنا، وأصبح معدودا من حقوق العمال في العالم كله؟
- الإجابة:
أود أن أنبه هنا على حقيقة شرعية مهمة قد يغفل عنها كثير من الناس أو يجهلونها من شريعة الإسلام، وهي: إن وظيفة الدولة في الإسلام ليست مقصورة على حماية الأمن الداخلي، والدفاع أمام الغزو الخارجي، وليست مهمتها -كما عرف في بعض المذاهب الاقتصادية- حماية الذين يملكون من الذين لا يملكون، إنما هي مهمة إيجابية شاملة ومرنة في الوقت ذاته، بحيث تتسع دائرتها لكل التصرفات والإجراءات التي من شأنها أن ترفع الظلم، وتقيم العدل بين الناس، وتزيل عنهم الضرر والضرار، وأسباب النزاع والصراع؛ ليحل محله التعاون والإخاء، ودليلنا على ذلك:
1. أن مسئولية الدولة -التي يمثلها الإمام في الإسلام- مسئولية مطلقة غير مقيدة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته... الحديث"، وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يقول: لو هلك جديٌ بشط الفرات لرأيتني مسئولا عنه أمام الله يوم القيامة، فهذا شعور بالمسئولية عن الحيوان؛ فكيف بالإنسان؟!.
2. أن إقامة العدل في حياة الناس هدف من أهداف الإسلام الكبرى، به قامت السماوات والأرض، وبه بعث الله الرسل، وأنزل الكتب: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( (الحديد:25)، والقسط هو العدل الذي به يتحقق التعادل أو التوازن بين الأشياء دون ميل أو جور، أو طغيان من جانب على جانب، ولعل في ذلك الميزان هنا -وفي آيات أخرى- ما يشير إلى ضرورة التوازن في الحياة الإنسانية؛ ولهذا عظم الله الميزان فقرنه بالكتاب في آيتين، وقرنه برفع السماء في سورة الرحمن حين قال: (والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان( (الرحمن: 7-9)
ولا غرو أن يبارك الإسلام إقامة توازن عادل بين أرباب العمل والعاملين، وبين الملاك والمستأجرين، وبين المنتجين والمستهلكين، وبين البائعين والمشترين، وذلك بمنع طغيان بعضهم على بعض، وإزالته إن وقع.
وقد أمر الله تعالى أولي الأمر بواجبين أساسيين: أداء الأمانات والحكم بالعدل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (سورة النساء: 58)، فكل ما يقتضيه إقامة العدل ورفع الظلم من تشريعات وإجراءات؛ فالشريعة ترحب به.
3. أن الشريعة الإسلامية تحرص على منع الضرر والضرار قبل وقوعهما، وإزالتهما بعد الوقوع. وقد جاء في الحديث الشريف: "لا ضرر ولا ضرار"، وأصبح هذا من القواعد الكلية المقطوع بها في الفقه الإسلامي، وفي القرآن الكريم آيات شتى تؤكد هذا المعنى.
وقد رتب الفقهاء على هذه القاعدة فروعا شتى؛ منها: أن الضرر يزال، وأن الضرر لا يزال بالضرر، وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، والأدنى يتحمل لدفع الأعلى... إلخ.
فكل قانون أو تصرف يمنع إضرار الناس بعضهم لبعض فإن الشريعة تتسع له، وتعتبره مبنيا على أصولها وقواعدها، ولهذا لم يعترض أحد من علماء الشرع على قانون كقانون المرور الذي ينظم السير، ويضع بعض القيود على أصحاب السيارات وأمثالهم لمصلحتهم ومصلحة المجموع، وإيقاع الجزاء على من يخالف ذلك.
وإذا كنا حريصين على منع تصادم السيارات حرصا على سلامة الأفراد، فأولى أن نحرص على منع تصادم فئات المجتمع بعضها ببعض حرصا على سلامة الجماعة كلها.
السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي
4. أن السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي باب واسع أمام الدولة المسلمة، تستطيع أن تلج منه لتحقيق ما تراه من إصلاحات مناسبة، أو سن ما تراه من قوانين صالحة، أو اتخاذ ما تراه من إجراءات وقائية أو علاجية لظاهرة معينة، ما دامت لا تعارض نصا محكما ولا قاعدة ثابتة، فكل ما يرى ولي الأمر فعله أقرب إلى الصلاح للرعية، وأبعد عن الفساد، فله أن يفعله، بل قد يجب عليه، وإن لم يجئ بذلك نص خاص، ولهذا قام الصحابة والخلفاء الراشدون بأعمال عديدة رأوا فيها خيرا ومصلحة، ولم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم قبلهم، ولا أذن لهم بفعلها بنص جزئي.
وهنا يحسن نقل الحوار الذي سجله المحقق ابن القيم، وقد جرى بين العلامة ابن عقيل الحنبلي وبعض الشافعية؛ لنتبين سعة آفاق السياسة الشرعية التي أشرنا إليها (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، ص13،14):